سورة الشورى - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}
{وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين لأالذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات {إِلاَّ مِن بَعْدِ حتى جَاءهُمُ العلم} من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه؛ وهذا يؤيد ما دل عليه سابقًا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازًا مرسلًا، ويجوز أن يكون التجوز في الاسناد، وأن يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغى عنى طلب {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة لهم {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم وقرأ زيد ابن علي {وَرِثُواْ} مبنيًا للمفعول مشددًا لواو {لَفِى شَكّ مّنْهُ} أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان {مُرِيبٍ} مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضمًا إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهو تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يمنوا به ولم يصدقوا حقه.


{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}
{فَلِذَلِكَ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبًا {فادع} إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة {واستقم كَمَا أُمِرْتَ} أي أثبت على الدعاء كما أوحى إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم} [الشورى: 13] وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولى لأن قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ} شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه {كبر على المشركين ما تدعوهم أليه} [الشورى: 13] فقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع} إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: {جَاءهُمُ العلم} [الشورى: 14] وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي عنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها عنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضًا كما في قوله:
شع دعوت لما نابني مسورًا ***
ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيًا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وجعل ضمير {تَفَرَّقُواْ} لأخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.
وقيل: {ضمير} تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بعث النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4] وإنما تفرقوا حسدًا له عليه الصلاة والسلام لالشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر أن الخطاب في {أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] لأمته صلى الله عليه وسلم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ} [الشورى: 14] فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار إمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدًا للرجز عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه را يوهم الاخلال بذلك المرام انتهى.
وأجيب عن الأول بأن ضمير {بَيْنَهُمْ} لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهو لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم واطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهورو، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم باهلاك المبطين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير {تَفَرَّقُواْ} للمشركين في قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين} [الشورى: 13].
حكى في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشًا والعلم ممد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى {من بعدهم} [الشورى: 14] على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.
ونقل الطبرسي عن السدى ما يدل على أن المراد من بعد احبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل: ضمير بعدهم للمشركين أيضًا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: {والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير {تَفَرَّقُواْ} للمشركين لوجود للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق {استقم} الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عامًا فيكون استقم أمرًا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة {الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي شيئًا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس {وَقُلْ ءامَنتُ بما أَنزَلَ الله مِن كتاب} أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير {كِتَابٌ} المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق لحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف القلوب لأهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصًا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعلمه ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل: اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب {لَنَا أعمالنا} لا يتخطانا جزاؤها ثوابًا كان أو عقابًا {وَلَكُمْ أعمالكم} لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصله فإنها في الأصل مصدر عنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت عنى الدليل وليس راد {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة {وَإِلَيْهِ المصير} فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسًا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.


{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}
{والذين يُحَاجُّونَ فِى الله} أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس. ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] قال المشركون كة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجًا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام، والمحجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أي من بعدما استجاب الناس لله عز وجل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضح المحجة، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ} زائلة باطلة لا تقبل عنده عز وجل بل لا حجة لهم أصلًا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.
وجوز كون ضمير {لَهُ} للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلى الله عليه وسلم إقرارهم بنعوته واستفتاحهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعدما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقه العيان، وقيل: المستجيب هو الله عز وجل وضمير {لَهُ} لرسوله عليه الصلاة والسلام، واستجابته تعالى له صلى الله عليه وسلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقه، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال: أي من بعدما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعاءه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه لمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل {استجيب} على الوعد خلاف الظاهر جدًا، وكذا ما روى عن عكرمة، وقيل: إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضًا إذ لم يكن كة أحد منهم، وقيل: لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام كة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا يقادر قدره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8